فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}.
{إِنْ هُوَ} أي ما عيسى ابن مريم {إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بالنبوة وروادفها فهو مرفوع المنزلة على القدر لكن ليس له من استحقاق المعبودية من نصيب، كلام حكيم مشتمل على ما اشتمل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101] ولكن على سبيل الرمز وعلى فساد رأي النصارى في إيثارهم عبادته عليه السلام تعريضًا بمكان عبادة قريش غيره سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: {وجعلناه مَثَلًا} أي أمرًا عجيبًا حقيقًا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة {لّبَنِى إسرائيل} حيث خلقناه من غير أب وجعلنا له من أحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك ما لم نجعل لغيره في زمانه، كلام أجمل فيه وجه الافتتان به وعليه، ووجه دلالته على قدرة خالقه تعالى شأنه وبعد استحقاقه عليه السلام عما قرف به إفراطًا وتفريطًا، وقوله سبحانه: {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا} الخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا {مّنكُمْ} يا رجال {مَلَئِكَةٌ} كما ولدنا عيسى من غير أب {فِى الأرض يَخْلُفُونَ} أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفًا ونسلًا لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليدًا كما تخلق إبداعًا فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة، وجوز أن يكون معنى لجعلنا الخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية و{مَلَئِكَةٌ} مفعول ثان أو حال، وقيل: من للبدل كما في قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38] وقوله:
ولم تذق من البقول الفستقا

أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام، وقيل: لا مانع من قصدهما معًا نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولًا.
وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ} [الزخرف: 59] الخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 98] الخ وإن تقريره إن جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قومًا أهلًا للنار وآخرين أهلًا للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيدًا مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]. اهـ.
وعلى ما ذكرنا أن الكلام في ابطال قد تم عند قوله تعالى: {خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء} الخ لنفي الاعتراض ليس بشيء.
وروي أن ابن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» فقال: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا، وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101] الآية أو نزلت هذه الآية، وأنكر بعضهم السكوت، وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبي عليه الصلاة والسلام: خصمتك رد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل، وروى محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام: أنت قلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ}؟ قال: نعم قال: أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] وهذا أثبت من الخبر الذي قبله.
وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا الخ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «هو لكم...» الخ بأنه ليس بثبت.
وذكر من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملًا بما تقتضيه كلمة {مَا} لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة موهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام: «بل هم يعبدون الشيطان» كما نطق به قوله تعالى: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] الآية، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر.
وفي (الدر المنثور) أخرج الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: «إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير» فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيًا وعبدًا من عباد الله تعالى صالحًا فإن كنت صادقًا فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف: 57] الخ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات، وقيل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميًا ونحن نعبد الملائكة فنزلت، فالمثل ما في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى} الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقًا بشرًا قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم: {أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلهًا مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون، ثم قوله سبحانه: {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالدًا وإبداعًا فلا يصلح القسمان للإلهية.
وفي رواية عن ابن عباس وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى} الآية قالت قريش: ما أراد محمد صلى الله عليه وسلم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى.
ومعنى {يصدون} [الزخرف: 57] يضجون ويضجرون، والضمير في {أَمْ} [الزخرف: 58] هو لنبينا عليه الصلاة والسلام، وغرضهم بالموازنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء} الخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلى الله عليه وسلم ببيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلى الله عليه وسلم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضًا عن درجة المعبودية بقوله سبحانه: {وَلَوْ نَشَاء} الخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: {أَمْ هُوَ} مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ} [الزخرف: 59] وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلى الله عليه وسلم، ولعل الرواية عن الحبر غير ثابتة، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا: ما قلنا بدعًا من القول ولا فعلنا منكرًا من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز وجل فنحن أشف منهم قولا وفعلًا حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي، وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء} الخ عليه كما في الوجه الثاني.
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}.
{وَأَنَّهُ} أي عيسى عليه السلام {لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ} أي أنه بنزوله شرط من أشراطها وبحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة، وأيًا ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به للمبالغة.
وقرأ أبي {لِذِكْرِ} وهو مجاز كذلك.
وقرأ ابن عباس. وأبو هريرة. وأبو مالك الغفاري. وزيد بن علي. وقتادة. ومجاهد. والضحاك. ومالك بن دينار والأعمش. والكلبي قال ابن عطية. وأبو نصرة {لَعِلْمٌ} بفتح العين واللام أي لعلامة. وقرأ عكرمة. قال ابن خالويه: وأبو نصرة {لا لَعِلْمٌ} معرفًا بفتحتين والحصر إضافي، وقيل: باعتبار أنه أعظم العلامات، وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السلام فقد أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. وأبو داود. وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لينزلن ابن مريم حكمًا عدلًا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد»، وفي رواية «وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فليقاتل الناس على الإسلام» وفيه «ويهلك المسيح الدجال» وفي أخرى قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» وفي رواية «فأمكم منكم» قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قال: تخبرني قال: فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، والمشهور نزوله عليه السلام بدمشق والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه ويقول: إنما أقيمت لك.
وقيل بل يتقدم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعًا لتوهم نزوله ناسخًا وأما في غيرها فيؤم هو الناس لأنه الأفضل والشيعة تأبى ذلك.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام ينزل على ثنية يقال لها أفيق بفاء وقاف بوزن أمير وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة وفي رواية سبع سنين قيل والأربعون إنما هي مدة مكثه قبل الرفع وبعده ثم يموت ويدفن في الحجرة الشريفة النبوية، وتمام الكلام في البحور الزاخرة للسفاريني، وعن الحسن وقتادة وابن جبير أن ضمير {أَنَّهُ} للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضًا، وضعف بأنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق، وقالت فرقة: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال عليه الصلاة والسلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وفيه من البعد ما فيه.
وكأن هؤلاء يجعلون ضمير {أم هو} [الزخرف: 58] وضمير {إِنْ هُوَ} [الزخرف: 59] له صلى الله عليه وسلم أيضًا وهو كما ترى {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكن في وقوعها {واتبعون} أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل: هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورًا من جهته عز وجل فهو بتقدير القول أي وقل اتبعوني {هذا} أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير في {أَنَّهُ} له {صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى الحق.
{وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان} عن اتباعي {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي بين العداوة أو مظهرها حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}.
عطف قصة من أقاصيص كفرهم وعنادهم على ما مضى من حكاية أقاويلهم، جرت في مجادلة منهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وهذا تصدير وتمهيد بين يدي قوله: {ولما جاء عيسى بالبينات} [الزخرف: 63] الآيات الذي هو المقصود من عطف هذا الكلام على ذكر رسالة موسى عليه السلام.
واقتران الكلام بـ {لما} المفيدةِ وجودَ جوابها عند وجودِ شرطها، أو توقيتَه، يَقْتَضِي أن مضمون شرط {لمّا} معلوم الحصول ومعلوم الزمان فهو إشارة إلى حديث جرى بسبب مثَل ضربه ضارب لحال من أحوال عيسى، على أن قولهم {أألهتنا خير أم هو} يحتمل أن يكون جرى في أثناء المجادلة في شأن عيسى، ويحتمل أن يكون مجردَ حكاية شبهة أخرى من شُبه عقائدهم، ففي هذه الآية إجمال يبينه ما يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من جدَل جرى مع المشركين، ويزيده بيانًا قوله: {إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه وجعلناه مثلًا لبني إسرائيل} [الزخرف: 59] وهذه الآية من أخفى آي القرآن معنى مرادًا.
وقد اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية وما يبين إجمالها على ثلاثة أقوال ذكرها في (الكشاف) وزاد من عنده احتمالًا رابعًا.
وأظهر الأقوال ما ذكره ابن عطية عن ابن عباس وما ذكره في (الكشاف) وجهًا ثانيًا ووجهًا ثالثًا أن المشركين لما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان {إنَّ مثل عيسى كمثلَ آدم} [آل عمران: 59] وليس خلقه من دون أب بأعجب من خلق آدم من دون أب ولا أم أو ذلك قبل أن تنزل سورة آل عمران لأن تلك السورة مدنية وسورة الزخرف مكية قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميًا ونحن عبدنا الملائكة أي يدفعون ما سفههم به النبي صلى الله عليه وسلم بأن حقه أن يسفه النصارى فنزل قوله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلًا} الآية ولعلهم قالوا ذلك عَن تجاهل بما جاء في القرآن من ردّ على النصارى.
والذي جرى عليه أكثر المفسرين أن سبب نزولها الإشارة إلى ما تقدم في سورة الأنبياء (98) عند قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصبُ جهنم} إذ قال عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه للنبيء صلى الله عليه وسلم أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» قال: خَصَمْتُك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى ابنَ مريم نبيء وقد عبدته النصارى فإن كان عيسى في النّار فقد رَضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه. ففرح بكلامه من حَضر من المشركين وضجّ أهل مكة بذلك فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم مِنّا الحُسنى أولئك عنها مُبعَدون}.
في سورة الأنبياء (101) ونزلت هذه الآية تشير إلى لجاجهم.
وبعض المفسرين يزيد في رواية كلام ابن الزِبَعرى: وقد عَبَدَتْ بنو مُلَيح الملائكة فإن كان عيسى والملائكة في النّار فقد رضينا.
وهذا يتلاءم مع بناء فعل {ضرب} للمجهول لأن الذي جَعل عيسى مثلًا لمجادلته هو عبد الله بن الزِبعرَى، وليس من عادة القرآن تسمية أمثاله، ولو كان المثل مضروبًا في القرآن لقال: ولما ضَرَبنا ابن مريم مثلًا، كما قال بعده {وجعلناه مثلًا لبني إسرائيل} [الزخرف: 59].